مقالة : البعبع
كاتب المقالة : د. محمد سامح سعيد
الأستاذ بكلية الهندسة - جامعة القاهرة
انتهت امتحانات الثانوية العامة . لم أرى مثل ذلك فى العالم كله . الحياة فى مصر تدورحول محور الثانوية العامة . تنفق الأسرة المصرية فقيرها وغنيها مليارات الجنيهات سنويا على الدروس الخصوصية وتصاب الحياة الأسرية بالشلل التام والرعب القاتل طوال عامين . والصراع محتدم على الدرجة النهائية . إذا فقد الطالب نصف درجة فى كل مادة فقد فاتته فرصة الكلية التى يريدها . نظام غريب وشاذ . مطلوب من الشاب أن يحفظ كل ما فى الكتب من الغلاف إلى الغلاف . بل ويحفظ جميع الأسئلة المتوقعة وغير المتوقعة ويحفظ إجاباتها النموذجية ثم يتمالك أعصابه فى خلال ساعات الامتحانات ليفرغ على الورق كل ما حفظه بنفس ألفاظ وترتيب الدروس . ولذلك فكل طالب محتاج إلى مدرب يدربه على الحفظ وعلى الأسئلة . هل فهم الطالب من كل ما حفظه شيئا ؟
فى الغالب لا . إنى أراه جهدا فى الضياع ثم إذا دخل الكلية التى يريدها رسب . ورغم أن الجامعة قد أصابها . Exercise
in Futilityمرض الحفظ والتلقين إلا أن عادات الثانوية العامة قد لا تتوافق مع بعض الكليات مثل كلية الهندسة التى تتطلب المنطق والتفكير. الحفظ
يناسب الكليات النظرية بل يناسب أحيانا الطب ولكنه لا يناسب الهندسة . أريد أن أسأل ماذا نريد من تعليم أبنائنا . كانت المدرسة فى العصر الفرعونى تسمى برعنخ أى دار الحياة . أى أن التعليم مرتبط بالحياة والإعداد لها . والحياة خلقها الله مبنية على قوانين وعلى أنماط . إذاً لتتعامل مع الحياة لابد أن تفهم لا أن تحفظ هذه القوانين والأنماط . ثم أن المعرفة هى تراكم خبرات يستخدمها الإنسان فى مواجهة مواقف جديدة فيستدعى عندها الخبرات لا نصوص القوانين أو المعلومات . القوانين لها مدلول و لها معنى . لا قيمة لحفظ القانون دون فهم مدلولة ومعناه . الفهم هو الذى أدى بالإنسانية إلى التطبيق والتقدم .
لا جدوى من حفظ القانون دون تطبيقه . ولا معنى لحفظ حلول المسائل بعينها فإذا اختلفت المسألة وجاء موقف جديد تسمرت الأيدى وشلت العقول. لم
تدرب العقول على استدعاء الخبرات أو التفكير بل استدعاء نصوص معلومات من الذاكرة والذاكرة خالية من هذا الموقف الجديد .
ضاع الجهد وضاع المال واحترقت الأعصاب وشلت البلد كل ذلك هباء . والأغرب من ذلك هو التوتر فى كل وسائل الإعلام وهياج الرأى العام إذا جاء سؤال من هنا أو من هناك . لا أرى فى العالم كله مثيلا لتدخل أولياء الأمور فى الامتحانات . ليس فى الدنيا كلها رأى عام يفرض إرادته على التعليم أو القضاء . إذا جاء سؤال مثلا يقيس الفهم قيل إنه من خارج المنهج وأنه صعب .
وعلت أصوات الاحتجاج وهاجت الصحف وماجت صرخات الطلبة وأولياء الأمور وانفجر الرأى العام . أليس هذا تهريجا ؟
المهم هذا الإصرار على التسابق والفرص قليلة وطموح الأسرة المصرية أن يدخل ابنها أو ابنتها إلى الطب والهندسة مفهوم باعتبار الوجاهة الاجتماعية .
السؤال هنا هل الإبن أو البنت مؤهل عقليا ومهيأ نفسيا لهذا الاختبار . أم هو اختيار أسرى جبرى يعود بنا بالذاكرة إلى الزواج المرتب Arranged Marriage
الذى
كان يحدث فى الأرياف فى العقود الماضية. ماذا
إذا كان الابن أو البنت يميل إلى الفن أو الموسيقى أو التاريخ هل يفرض عليه دخول الطب والهندسة لمجرد أنه حصل على مجموع كبير . وما هى أهمية مواد كثيرة يدرسها الطالب فى مجال الطب والهندسة لا علاقة لها بها . لابد من فصل شهادة إتمام الثانوية العامة عن الدخول للجامعة . بل أنى أتصور أن يكون هناك امتحان لإنهاء الثانوية العامة . قد يكون ذلك قوميا أو على مستوى المنطقة التعليمية أو حتى على مستوى المدرسة ليعود للمدرسة دورها أثناء الدراسة الثانوية لأن المدرسة تهجر
حاليا لصالح الدروس الخصوصية . وهذا تهريج ما بعده تهريج . يمكن أن تكون هناك عدة مراحل للتقييم
: امتحان المدرسة يسجل أنشطة الطالب وٕابداعه وابتكاره وهذا ينهى دراسته الثانوية . ويمكن أن يعقد امتحان آخر يقيس قدرات الطالب للدخول إلى كليات بعينها . فالفنون والموسيقى والتربية الرياضية مثلا تتطلب امتحان قدرات . لماذا لا يكون هناك امتحان قدرات للهندسة أو للطب والتربية وغيرها. وقد
تكون هذه الامتحانات قومية تشمل القطاع المنشود أو تكون على مستوى الكليات المعنية . إن مكتب التنسيق كان له دور فى تحقيق العدالة فى العهد الاشتراكي. هل نحن الآن فى العهد الاشتراكي ؟
هل هناك مجانية حقيقية للتعليم ؟
هل هناك تكافؤ للفرص ؟
إن الجامعات الخاصة قضت على مبدأ تكافؤ الفرص فهى الباب الخلفى ليدخل الأغنياء إلى كليات قمة خاصة لا يملك الفقير أن يدخلها أو يدخل كليات قمة الجامعات الحكومية . إذاً مبدأ تكافؤ الفرص قد انهار فلا يوجد تكافؤ فرص فى النظام الرأسمالي .الغنى يحصل على ما يريد أما الفقير فليس له إلا الحصول على مجموع يقترب من النهاية العظمى . لابد من زيادة عدد الجامعات الحكومية والأهلية للقضاء على عنق الزجاجة . ولنكن صرحاء هل توجد مجانية للتعليم ؟
نعم توجد مجانية للتعليم فى المدرسة ولكن الطلبة يذهبون إلى الدروس الخصوصية وتقتطع الأسرة من قوتها لتلك الدروس . أين هى المجانية ؟
بل لقد امتدت العدوى إلى معظم كليات الجامعة بما فى ذلك الطب والهندسة . والدروس الخصوصية مدمرة مثل المخدرات .
فالمخدرات تعطل التفكير وتدمر المخ كذلك فإن الدروس الخصوصية تعطل التفكير وتشل القدرةعلى الاعتماد على النفس . فهى جريمة ولابد من محاربتها وغريب أن يرفع تجريمها من قانون كادر المعلمين . أما القضاء عليها فيكون بالتركيز على الفهم لا على المعلومة فى حد ذاتها .
ومن ثم يجب أن يقيس الامتحان المدلول لا النص و المعنى لا المنطوق . عندئذ سيفشل الملقنون الخصوصيون فى التعامل مع هذا النوع من التعليم لأن الامتحان يتغير باستمرار فى مواقف متجددة لا تتكرر تقيس الفهم والقدرات لا الذاكرة . ولابد أن يختلف أسلوب التدريس فى المدرسة ليتلاءم مع ذلك . ويتاح للطالب الدخول إلى المعامل واستخدام الوسائل التعليمية بكثرة فهى وسيلة الإيضاح والفهم . ولابد من تعويض الطالب على الاعتماد على النفس لا الاعتماد على الغير . ومسئولية ولى الأمر أن يعود ابنه وابنته على الاعتماد على النفس منذ الصغر مع مد يد العون فقط عند الضرورة . إننا نضيع أبناءنا ونضيع أمتنا دون أن ندرى .

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق